12/12 كفاية وأخواتها (*)
ديسمبر
10
عبد الحليم قنديل
قبل ثلاث سنوات بالضبط، وفي الساعة الثانية بعد ظهر الأحد 12 كانون الثاني (ديسمبر) 2004، كانت مصر علي موعد مع الأقدار، لم تكن هذه المرة تنتظر قرارا من رئيس ولا من زعيم ملهم، بل كان القرار لمبادرين بدا كأنهم من المجانين، قرار بالتظاهر دون إذن ولا إحم ولا دستور، وضد تمديد رئاسة مبارك و توريث نجله رأسا، مئات من المنشقين علي الركود الطويل أمام دار القضاء العالي، وعلي الأفواه بوستر لاصق، دائرة باللون الأصفر، في قلبها كلمة كفاية باللون الأحمر، وعلي الحواف ـ بالعربية والإنجليزية ـ اسم الحركة المصرية من أجل التغيير ، وفلاشات الكاميرات لا تكف عن الخفقان علي مدي ساعتين، وعلي مرمي البصر جيوش من جنرالات أمن الدولة، وجنود الأمن المركزي بالأردية السود، وكأنه سواد الليل الغارب يحاصر نقطة النور عند مطلع الفجر.
كانت مظاهرة 12/12هي الإعلان الجهير في الشارع عن مولد كفاية ، كان الإعلان بالمظاهرة لا بالمؤامرة، قبلها بشهور كانت المؤامرة النبيلة، وفي مكتب عصام الإسلامبولي المحامي بمنطقة باب اللوق بقلب القاهرة، جري الإتفاق علي المخاطرة، كان الحاضرون سبعة، وكنت الثامن، ثلاثة بين السبعة من قيادات جيل الوسط الناصري وهم: عصام الإسلامبولي ود. محمد السعيد إدريس وأمين اسكندر، وإثنان من الهوي الليبرالي هما جورج إسحق وهاني عنان، وإثنان من موارد إسلامية هما المهندس أبو العلا ماضي ود.السيد عبد الستار المليجي، ويساري واحد هو المهندس أحمد بهاء الدين شعبان، وجري اللقاء بغير عنوان للدعوة في أواخر (أغسطس) 2004، كان السبعة قد انشغلوا قبلها بشهور في جمع توقيعات ثلاثمائة شخصية عامة علي بيان يطلب الديمقراطية، كان العنوان: بيان إلي الأمة، والعنوان الشارح: مواجهة الغزو الأمريكي الصهيوني والتدخل الأجنبي سبيلة الإصلاح الشامل وتداول السلطة، وربما لا تكون من حاجة لإيراد تفاصيل النص، فالبيان ظاهر من عنوانه، وإن لم ترد فيه عبارة (لا للتمديد لا للتوريث) التي اشتهرت بها كفاية فيما بعد، بل ولم ترد كلمة ولا إشارة عن التوريث من أصله، فلم تكن كفاية قد ظهرت، لا البيان دعا إليها ولا إلي مثلها، ولا جري التخطيط لظهورها قبل الاجتماع الثماني في مكتب الصديق عصام الإسلامبولي، لم أكن قد شاركت في صياغة البيان، ولا في جمع التوقيعات عليه، وبعض الذين وقعوا صاروا من ألد أعداء كفاية منذ ظهرت، وقد وضع اسمي مع الموقعين بطريقة عفوية، وعلي اعتبار كان في موضعه تماما، وهو أني أتطلع لما هو أكبر وأكثر جذرية بمراحل، فقد كنت وقتها رئيس التحرير التنفيذي لجريدة العربي ، وكنت قد بدأت حملة ضد التمديد والتوريث تداعت معاركها منذ 18 (يونيو) 2000، وجمعت مقالات الحملة الممتدة فيما بعد في كتاب بعنوان ضد الرئيس صدر في (سبتمبر) 2005، وربما لهذا السبب بالذات جرت دعوتي لاجتماع السبعة الذين صرت ثامنهم، كان السؤال: وماذا بعد؟ وقلت وقتها: أنه قد لا تكون من قيمة تبقي للبيان علي صحة منطقة ونصوصه، وقد يذهب مع غيره إلي إرشيف حركة وطنية أدمنت إصدار بيانات، ثم لا شيء آخر يشفع القول بالفعل، واقترحت أن نبدأ بالفعل الذي هو أسبق إنباء من البيانات، ثم اقترحت إنشاء الحركة المصرية من أجل التغيير وأن نبادر إلي التظاهر وضد الرئاسة بالذات، وأن نختصر الطرق باعتبار البيان الذي صدر هو البيان التأسيسي للحركة، واضيفت إلي رأس البيان ـ فيما بعد ـ تسمية الحركة وشعارها الأشهر لا للتمديد لا للتوريث ، وهكذا كان، وتوالت الحوادث مسرعة، اتساع لدائرة المبادرين الذين تحولوا جميعهم إلي مؤسسين، ومؤتمر أول بجمعية الصعيد للتنمية ـ في 22 ايلول (سبتمبر) 2004 ـ ظهرت خلف منصته كلمة كفاية إلي جوار اسم الحركة الكامل، والمعروف أن كلمة كفاية ـ في النطق المصري الدارج ـ هي المرادف للفظة كفي بالفصحي، وقد تعود المصريون حمالو الأسيه علي لفظة كفاية في البيت وفي الشارع، وتعني ـ حين تلفظ ـ أن أحدا لم يعد يحتمل مزيدا من كلام أو سلام، وكان النقل العبقري للكلمة إلي مجال السياسة له أثر السحر، وتضاعف عدد المنضمين المناصرين علي موقع كفاية الإلكتروني، وسري التعاطف الواسع إلي كفاية بعد حادث خطف واعتداء شهير جري لي صباح 2 (نوفمبر) 2004، ثم جرت الدعوة إلي اختراق حواجز الخوف بمظاهرة 12/12، بدت المظاهرة الفريدة في نوعها ـ وقتها ـ كأنها كلمة الخلق، وتدافعت بعدها دفقات الغضب، وعشرات المظاهرات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية التي بادرت إليها كفاية وأخواتها. وربما لا تكون أدوار الأشخاص، ولا التفاصيل هي الأهم، وهي كثيرة وموثقة علي أي حال، لكنها لا تعني ـ بالطبع ـ أن حركة كفاية كانت محض كد ذهني وعملي لمبادرين إليها، ولا هي نشأت من فراغ، كان اختراق الصحافة للخطوط الحمراء، وكان كسبها المغامر لحق نقد الرئيس الفرعون ـ في جريدة العربي بالذات ـ قد أحدث أثره، كانت أحجار التمرد الصحفي تقلق الساكن علي سطح البركة الراكد، وتتسع بدوائر من التمرد عالي الصوت في أوساط المثقفين الغاضبين، لكن ذلك لم يكن يكفي علي أي حال، كان السطح الراكد في احتياج إلي هزة أكبر، وعلي نحو ما اجتمعت موارد غضب اجتماعي وسياسي ظاهر، كانت أزمة التكييف الهيكلي لاقتصاد النهب العام قد دخلت إلي حدود الخطر، وكانت الرئاسة المزدو جة عند القمة تتبدي مظاهرها، فقد أرخي الرئيس ـ (الأب) ـ حبل سلطته لإبنه الموعود بالتوريث، وكان النجل جمال مبارك قد ظهر أثره مقتحما لمنطقة إتخاذ القرارات الكبري، كانت البروفة الأولي هي ضغط جمال مبارك ـ وجماعته في لجنة السياسات ـ لاتخاذ قرار خفض قيمة الجنيه المصري إلي النصف تقريبا في كانون الثاني (يناير) 2003، ونزل القرار ـ الصدمة بقيمة الموجودات المصرية إلي النصف، واشتعلت حرائق الأسعار مع تضاعف سعر صرف الدولار الحاكم مقابل الجنيه المصري، وكان المصريون ـ وقتها ـ يرقبون بقلق بالذات ما يجري علي جبهة العراق، وظهر لهم تواطؤ نظام مبارك في حرب غزو العراق التي كانت وشيكة، وقد كان العراق ـ قبل الحصار بالذات وبعده بدرجة أقل ـ سكنا ثانيا لملايين المصريين، كان موردا لرزق من تقطعت به السبل في مصر، ولم يكن الشعور بالذل القومي ـ مع احتلال العراق ـ هو وحده المسيطر، بل تدافعت إلي جواره مشاعر السخط الاجتماعي المتصل بتراكم مآسي الفقر والبطالة والعنوسة والبؤس العام، وبدا العراق ـ عشية غزوه بالذات ـ كأنه محطة الاجتماع الرمزي لموارد الذل القومي والسخط الاجتماعي معا، وبدا مشهد ميدان التحرير ـ في 20 و21 آذار (مارس) 2003 ـ اختصارا لقلق منذر بعواصف علي الطريق، فقد اتفق عدد من النشطاء علي تنظيم احتجاج رمزي في قلب القاهرة مع أول صاروخ كروز يسقط علي رأس بغداد، وفوجئ النشطاء بما جري، فقد تدفق ما يزيد عن عشرين ألفا من الناس العاديين تلقائيا إلي ميدان التحرير، ولم يكن الهتاف التلقائي ضد بوش وحده، بل امتد السخط ـ المنطوق هذه المرة ـ إلي رأس مبارك ورأس وريثه، ودار الصدام عنيفا مع قوات الأمن، وامتدت دوائر الخطر من ميدان التحرير إلي حيث نقابتا الصحافيين والمحامين في شارع عبد الخالق ثروت، وعلي سلالم نقابة الصحافيين ـ وبالقرب منها ـ جري سحل نائبين معارضين شاركا في الحوادث هما حمدين صباحي ومحمد فريد حسنين، وجري اعتقال مئات بينهم أطفال لا تهمة لهم سوي أنهم غضبوا مع الغاضبين، كانت هذه الحوادث بالغة الأثر فيما جري بعدها من قلق متزايد علي السطح السياسي والمهني، وفي أوساط النخب الراديكالية بالذات، فقد تشكلت جماعة 20 مارس بمبادرة من فصائل يسار أظهرها منظمة الاشتراكيين الثوريين ، وفي السياق ذاته كانت مبادرة عدد من كبار أساتذة الجامعات لتشكيل جماعة 9 مارس لاستقلال الجامعات في أواخر 2003، ثم أن هذه الحوادث كانت مؤثرة في لفت انتباه الناشطين في دعم انتفاضة فلسطين والشعب العراقي إلي قضية بدت منسية في الزحام، لفتت الإنتباه بشدة إلي أولوية الحال المصري، فمصر هي المفتاح، والمقاومة بالسلاح كانت جارية ـ ولا تزال ـ علي جبهات فلسطين ولبنان والعراق بعد غزوه، غير أن المقاومة بالسياسة كانت غائبة إلي حد محزن في مصر، فالأحزاب ماتت أو تكاد، ودعوي التدرج بالتعدد الديمقراطي الكسيح انتهت إلي تكريس الديكتاتورية بالجملة، وتمديد رئاسة مبارك الذي كان منتظرا ـ في موعده الدوري أواخر 2005 ـ بدا كأنه الكارثة فوق الكارثة، ثم أنهم يعدون الإبن ليرث الرئاسة، وربما إلي ثلاثين سنة تالية لثلاثينية الأب، هذه الموارد كلها كانت مؤثرة ضاغطة علي ضمائر وبصائر الذين بادروا لإصدار البيان الذي جمعت عليه ـ فيما بعد ـ توقيعات ثلاثمائة شخصية عامة، وقد ظهرت فكرة البيان علي مائدة افطار رمضاني بمنزل المهندس أبو العلا ماضي في منطقة الهرم أواخر (نوفمبر) 2003، بدت كل هذه التطورات مدفوعة بل ومندفعة بتيار الحوادث، لكنها لم تكن كافية ولا عاكسة لانتقال إلي مزاج آخر ثوري حقا، وتداعت شهور طويله مرهقة، وإلي أن جري إطلاق مبادرة كفاية، وتنظيم مظاهرتها الأولي أواخر 2004، والتي كانت اختراقا لحاجز الصوت في البلد المختنق بأزمات تهد الحيل وتقطع النفس. وفوق حساب الموارد الواصلة من أزمة البلد والبؤس الذي انتهي إليه، كان للوعي المضاف أثره اللافت ـ وإن بدا تلقائيا ـ في تكوين كفاية ، فقد نشأت كفاية من ميل محسوس في حركة المصريين السياسيه إلي إئتلاف وطني جامع في لحظات الخطر والحيرة الجامعة، وهو ميل واصل بأسبابه الأعمق في التكوين المصري عظيم التجانس التاريخي، وفي الجغرافيا السكانية الملمومة من حول شريان النيل المتصل بماء الحياة في قلب المعمور المصري، وإلي حد تبدو معه السياسة المصرية كأنها تلاوين متعددة لصوت واحد طالع من الحنجرة ذاتها، هذا الميل لائتلاف وطني ـ مدفوع بالطبائع ـ كان ظاهرا في تأسيس كفاية ، لكن النزوع المفارق ـ لعادات القبيلة ـ كان ظاهرا، وربما بذات القدر، فلم تظهر كفاية كحزب يضاف، ولا هي ظهرت كجبهة أحزاب، بل ظهرت بعضوية فردية، وفي تكوين وطني مؤتلف إلي حد الامتزاج، وكانت تلك من عناصر القوة الجاذبة، وإلي حد أنها حملت اسم الحركة المصرية ، هكذا ببساطة، وبلا تفصيل ولا تحديد، سوي أنها حركة ـ بمنطوق الاسم ـ تعطي الأولوية للفعل، فالفعل ـ في السياق اليائس ـ هو الذي يحيي الروح من بعد الموات، الفعل ـ في ظروف مصر المحسوسة ـ هو الذي يرد الاعتبار للسياسة، الفعل ـ في لحظات بعينها ـ هو النظرية وسورة الفاتحة وأم الكتاب، لكن المصاعب جاءت من موارد أخري، فقد وجدت الحركة من أجل التغيير ، أي أنها تجاوزت فكرة طلب الديمقراطية من بيت السلطان، وهنا بالذات بدت كفاية كأنها ذاهبه إلي قطيعة، وكان ذلك صحيحا بامتياز، فكفاية لم تكن مجرد صدي لأصوات مفرقة علي السطح، أو غائرة في العمق، بل كانت صوتا في ذاتها، كانت في مقام القطيعة مع ركود طويل استبد بالحركة الوطنية المصرية لعقود، ك لا يوجد ردودروايته طلعة بدن آخر غير الذي نعرف: مسعد أبو فجر: لم أفكر في البنية فقط دونت حكاياتي (*)ديسمبر
|